قبل مونديال قطر.. محطات مضيئة للعنابي
رحلة مجد خاضها المنتخب القطري لكرة القدم على مدار سنوات طويلة من أجل الوصول بأتم الجاهزية إلى اللحظة التاريخية المتمثلة بالظهور الأول في نهائيات كأس العالم قطر 2022.
وجاب العنابي العالم كي ينهل من خبرات منتخبات في كل القارات بغية أن يراكم اللاعبون تجارب تعينهم على مجاراة منافسين سيواجهونهم في المونديال الذي تستضيفه قطر للمرة الأولى في تاريخ المنطقة العربية والشرق أوسطية.
ولم تخل منافسة لم يشارك فيها المنتخب القطري في جل القارات تنفيذا لبرنامج تحضيري أعد بإحكام من قبل المسؤولين وبالتنسيق مع خبراء فنيين، كي يصل اللاعبون إلى مستوى يقارب قيمة منتخبات من الصفوف الأولى في عالم الساحرة المستديرة، وهو الأمر الذي لن يتأتى سوى بتوفير الاحتكاك بمدارس كروية عالمية، دون الخشية من النتائج التي لم تكن بيت القصيد في المقام الأول، على اعتبار أن الهدف هو الارتقاء بالمستوى الفني وتوفير خبرات تنافسية من أجل ردم هوة طالما كانت تفصل المنتخبات في القارة الآسيوية عن نظيراتها خصوصا في أوروبا وأمريكا الجنوبية.
محطات كثيرة وكبيرة عرفها المنتخب القطري منذ أن تم اتخاذ قرار تسيير الإعداد بتلك الطريقة التي تختصر المسافات، ومع كل محطة مضيئة ونجاح يتحقق، يأتي التأكيد على صواب الفكرة من أساسها الذي انطلقت منه، بالتعويل على جيل جديد بقيادة فنية مختلفة.
القصة بدأت منذ شهر يونيو 2017 عندما نودي الإسباني فيليكس سانشيز - ذاك الاسم المغمور في عالم التدريب آنذاك - كي يتولى تدريب المنتخب خلفا للأوروغوياني الخبير بالكرة القطرية خورخي فوساتي، بيد أن الجزء غير المعروف من القصة، هو أن الرصد لم يكن لعناصر المنتخب التي كانت تخوض في تلك الفترة المرحلة النهائية من التصفيات الآسيوية المؤهلة إلى نهائيات كأس العالم في روسيا 2018، بل كانت الأنظار شاخصة على مجموعة من النشء الذي خط مسيرة رائعة سواء بالفوز بلقب كأس آسيا تحت 19 عاما في ميانمار عام 2014 أو ببلوغ نهائيات كأس العالم تحت 20 عاما في نيوزلندا في العالم الموالي.
ولعل هذا ما يفسر استدعاء سانشيز لتدريب المنتخب الأول، وهو الذي كان قد أشرف على تدريب منتخب الشباب في العالم 2013 وقاده إلى الريادة القارية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الرجل كان يعمل في أكاديمية التفوق الرياضي "أسباير" منذ العالم 2006 ويعرف جل اللاعبين قبل الخطوة الكبيرة الموالية والمتمثلة بخلق توليفة جديدة تمزج بين عناصر شابة وأخرى خبيرة من لاعبي الصفوة الذين تواجدوا في تشكيلات المنتخب مع الأخذ بعين الاعتبار عامل السن حينها، لأن الهدف دائما هو بدء التحضير لكأس العالم FIFA قطر 2022.
ويمكن القول أن المباراتين الأخيرتين في التصفيات الآسيوية المؤهلة الى مونديال روسيا أمام كل من سوريا والصين يومي 31 أغسطس و5 سبتمبر من العام 2017، كانتا ضربة البداية الحقيقية للإعداد بعد التجديد، بعدما بدأت الأسماء الجديدة تغزو تشكيلات المنتخب رويدا رويدا حتى تبلور الشكل الجديد في المناسبات الموالية.
ولعل برنامج الاعداد تضمن نظرتين سارتا بالتوازي.. الأولى تمثلت بالتحضير للمحطات التنافسية التي يقبل عليها المنتخب، والثانية هي الوضع في الاعتبار أن الغرض الرئيس هو التجهيز للمونديال، ووفقا لذلك، بدأ الاتحاد القطري وبالتنسيق مع إدارة المنتخبات، في توفير الاختبارات الودية التحضيرية خلال فترات التوقف المدرجة على أجندة الاتحاد الدولي، استعدادا للحدث المقبل آنذاك وهو نهائيات كأس آسيا 2019، بعدما ضمن المنتخب مسبقا التأهل إليها من خلال الدمج الذي يتبعه الاتحاد الآسيوي بين تصفيات آسيا وتصفيات المونديال، وبالتالي فإن خوض المنتخب القطري المرحلة النهائية من تصفيات مونديال روسيا، يعني ضمان التأهل لكأس آسيا 2019.
وبدأت أولى ثمار نجاح المشروع عندما رحل المنتخب القطري إلى الإمارات للمشاركة في النهائيات القارية، دون أن يكون مرشحا للمنافسة أو حتى الذهاب بعيدا، بواقع التجديد الذي طرأ على التشكيلة بتواجد عدد كبير من اللاعبين الذين يخوضون البطولة الآسيوية للكبار للمرة الأولى في تاريخهم، خاصة النجوم الجدد القادمين من منتخب الشباب ثم المنتخب الأولمبي الذي أشرف عليه سانشيز وحل ثالثا في كأس آسيا تحت 23 عاما عام 2018 وبذات التوليفة التي باتت تهيكل المنتخب الأول مع دعمه بأسماء وازنة أيضا.
وفي الإمارات صنع المنتخب القطري الحدث وحقق المجد القاري الأول، وقدم للقارة الآسيوية نجوما بات يشار إليهم بالبنان، فالمحصلة كانت مذهلة على كل المستويات بدءا من الدور الأول حتى المباراة النهائية التي ما زالت عالقة في أذهان القطريين والعرب، بعدما كان المنافس منتخب ياباني عنيدا ويملك الخبرة والتجربة والتقاليد الكروية الكبيرة في القارة الصفراء.
واستهل العنابي المنافسة القارية بالفوز على لبنان بهدفين دون رد، ثم حقق فوزا آخر عريضا على كوريا الشمالية بسداسية، قبل أن يتجاوز المنتخب السعودي بهدفين دون مقابل ويتصدر المجموعة الخامسة، ثم كبرت التحديات حيث مواجهة منافسين أقوياء في الأدوار الموالية، لكن المنتخب القطري شق طريقه بثبات وتجاوز العراق في دور الـ16 بهدف دون رد، ثم كوريا الجنوبية في ربع النهائي بالنتيجة ذاتها، قبل أن يفوز على المنتخب الإماراتي صاحب الأرض برباعية مدوية، وصولا إلى ملحمة النهائي التي تجاوز فيها المنتخب الياباني بثلاثة أهداف لهدف، ناشرا الفرح بالإنجاز التاريخي الأول.
الأرقام المذهلة للمنتخب القطري في كآس آسيا، تجسدت بالفوز في المباريات السبع وتسجيل 19 هدفا مقابل استقبال هدف وحيد، في حين توج اللاعب المعز علي هدافا للنسخة والأكثر تسجيلا للأهداف في نسخة واحدة في تاريخ المسابقة برصيد 9 أهداف متجاوزا رقم الإيراني علي دائي، واختير المعز أيضا أفضل لاعب في البطولة، فيما كان زميله أكرم عفيف أفضل ممرر وكان سعد الشيب أفضل حارس.
وبعد التتويج بلقب كأس آسيا بات المنتخب القطري غير ذاك الذي كان قبلها، فالأنظار أضحت مسلطة عليه بشكل كبير، وبات وما زال بطلا للقارة الصفراء، وأصبح نجومه ومدربه مثار إعجاب وتقدير كبيرين، هذا إلى جانب قيمة عالمية بالقفزة الهائلة التي تحققت على مستوى تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA بالتقدم 38 مركزا، حيث انتقل من المركز 93 إلى المركز 55 في التصنيف الصادر في شهر فبراير من العام 2019.
وفتح الفوز باللقب، الآفاق أمام المنتخب القطري إلى خط مسيرة مختلفة في التحضير، متمثلة بالانطلاق بكل ثقة نحو معتركات قارية أخرى، حيث تبددت بعد التتويج القاري كل المخاوف من تلبية الدعوة التي وجهها اتحاد أمريكا الجنوبية لكرة القدم (كونميبول) للاتحاد القطري من أجل مشاركة المنتخب في النسخة الـ46 من كوبا أمريكا التي استضافتها البرازيل خلال شهري يونيو ويوليو من العام نفسه، ذلك أن الدعوة كانت، في أبريل 2018، على هامش النسخة الـ68 من "الكونجرس" اللاتيني، بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، ليكمل العنابي إلى جانب المنتخب الياباني عقد المنتخبات الـ12 المشاركة في البطولة التي تعد الأقدم على صعيد المنتخبات في العالم.
التجربة في كوبا أمريكا كانت ثرية وحققت أهدافها المرجوة، خصوصا أن القرعة أوقعت المنتخب القطري في المجموعة الثانية، الى جانب منتخبات الأرجنتين وكولومبيا وباراغواي وهي منتخبات تملك تاريخا كبيرا وتقاليد عريقة، فلم يكن بطل آسيا صيدا سهلا بعدما أظهر شخصية قوية خصوصا في المباراة الأولى التي اكتفى فيها بالتعادل مع الباراغواي بهدفين لمثلهما وكان قريبا جدا من تحقيق الفوز، قبل أن يخسر أمام كولومبيا والأرجنتين بنتيجة (صفر-1) و( صفر-2) تواليا.
وعاش المنتخب القطري فترة صعبة خصوصا في ظل جائحة كورونا التي أثرت بشكل كبير على سير برنامج التحضير، حيث قضت الجائحة بتأجيل كوبا أمريكا المقررة عام 2020 إلى العام 2021 حيث كان من المقرر أيضا أن يشارك بها المنتخب القطري، لكن التأجيل أجبر الاتحاد القطري ولجنة المنتخبات على تغيير الخطة والاعتذار عن تلك النسخة.
ورغم التحديات الكبيرة التي فرضتها الجائحة، عادت رحى الإعداد إلى طبيعتها بالنسبة لرجال المدرب فيليكس سانشيز مع استحقاق التصفيات المؤهلة إلى نهائيات كأس آسيا 2023 المدمجة أصلا مع تصفيات مونديال قطر 2022.. قبل أن يأتي التحدي القاري الجديد المتمثل بالمشاركة في الكأس الذهبية 2021 التي أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية بدعوة من اتحاد أمريكا الوسطى والكاريبي (كونكاكاف).
وكان ظهور المنتخب القطري في الكأس الذهبية مغايرا بتأثيرات إيجابية تركتها المحطات السابقة خصوصا كوبا أمريكا، ليقدم العنابي مستويات راقية عكست التطور اللافت الذي أصاب المنتخب، ليبلغ الدور نصف النهائي، وكان على أعتاب خوض المباراة النهائية في المشاركة الأولى لمنتخب عربي في البطولة، وثاني مشاركة لمنتخب آسيوي بعد كوريا الجنوبية التي شاركت في نسختي 2000 و2002.
وتجسدت المسيرة المثالية للمنتخب القطري بالعبور أولا إلى الدور ربع النهائي متصدرا المجموعة الرابعة برصيد سبع نقاط، جمعها من فوزين على غرينادا ( 4 صفر )، وهندوراس ( 2 صفر) وتعادل في الافتتاح أمام بنما (3-3)، قبل أن يعبر إلى الدور نصف النهائي بتجاوز منتخب السلفادور بثلاثة أهداف لاثنين، ضاربا موعدا تاريخيا مع منتخب الولايات المتحدة الأمريكية، حسمه أصحاب الأرض بهدف دون رد، بعد سوء طالع لازم رفاق القائد حسن الهيدوس بإهدار ركلة جزاء، ليخسر المنتخب القطري المباراة ويكسب احترام الجميع في البطولة، خصوصا أنه سجل رقما قياسا بعدما بات أكثر ضيف على البطولة يسجل أهدافا في نسخة واحدة بتاريخ الكأس الذهبية برصيد 12 هدفا، محطما الرقم القياسي السابق، والذي كان مسجلا باسم البرازيل بـ10 أهداف في نسخة 1996.
كما ضرب هداف المنتخب وآسيا المعز علي موعدا جديدا مع التألق بتتويجه بجائزة هداف بطولة الكأس الذهبية مسجلا أربعة أهداف، وبات أول لاعب في التاريخ يتوج هدافا لقارتين بعد أن حاز على لقب هداف كأس آسيا 2019، علما أنه سطر مجدا آخر بعدما أضحى الوحيد في العالم الذي يسجل في ثلاث بطولات قارية، حيث سبق أن سجل في كوبا أمريكا 2019.
ولم يكتف المنتخب القطري بالتجربتين الأمريكيتين، ذلك أنه خاض تجربة أوروبية فريدة قد لا تسنح لأي منتخب في العالم، من خلال المشاركة في المجموعة الأولى من التصفيات الأوروبية المؤهلة إلى كأس العالم قطر 2022 بصفة اعتبارية دون احتساب النتائج بعد الدعوة التي تلقاها الاتحاد القطري من نظيره الأوروبي.
التجربة كانت قوية خصوصا أن المجموعة ضمت منتخبات كبيرة على غرار البرتغال بطلة أوروبا 2016 وصربيا وأيرلندا ولوكسمبورج وأذربيجان، ورغم توزيع المنافسات على مساحة زمنية امتدت من شهر مارس إلى نوفمبر من العام 2021..إلا أنها كانت مضغوطة حيث كان المنتخب يخوض ثلاث مباريات في كل فترة توقف لا تزيد عن تسعة أيام.
ولم تكن النتائج هي المقصد في المقام الأول، بل التجربة والاحتكاك والاستفادة من منتخبات منها من هو في الصف الأول أوروبيا، ورغم ذلك سجل المنتخب القطري استهلالا مثاليا بالفوز على لوكسمبورغ وأذربيجان والتعادل مع أيرلندا، قبل أن تزداد المباريات صعوبة، لتأتي المحصلة بالفوز في مناسبتين والتعادل في ثلاث والخسارة في خمس مباريات منها أربعة أمام المنتخبين الصربي والبرتغالي (ذهابا وإيابا)، وخسارة أمام أيرلندا (إيابا)، لكن الفوائد التي جناها المنتخب القطري كانت كثيرة وكبيرة خصوصا في رحلة التحضير للمونديال.
وينتظر الإسباني فيليكس سانشيز أن يظهر أبناء المنتخب القطري بالشكل الذي يتمناه في أول مونديال يسجل حضور الكرة القطرية عبر التاريخ، وتبرز مجموعة من الأسماء في تشكيلة المدرب سانشيز، والذي حافظ على القوام الأساسي الذي صنع الفرحة وأهدى قطر أول كأس آسيوية في النسخة التي استضافتها الإمارات في العام 2019.
ومما لا شك فيه أن مدرب المنتخب القطري أراد الإبقاء على أكبر قدر ممكن من العناصر الأساسية في القائمة المونديالية،